مقالات

إنها العنصرية يا سيد “ماكرون”

بقلم سماح سعيد : 

في خطوة أثارت موجة من الجدل والاستنكار، عادت بعض الصحف الفرنسية إلى نشر الرسوم المسيئة للرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، في تكرار لموجة الإساءة التي بدأت بإحدى الصحف الدنماركية عام 2019.

فقد أعادت صحيفة “فرانس سوار” الأسبوع الماضي نشر تلك الرسوم، لتلحق بها “لوموند” الشهيرة بلوحة جديدة تصدرت نصف صفحتها الأولى تحت شعار ما سمّته “حرية التعبير”.

هذا المشهد المتكرر يثير تساؤلات واسعة حول أسباب خوف فرنسا من الإسلام والمسلمين، وحدود ما يُسمى بحرية التعبير عندما تتحول إلى وسيلة للإساءة لمعتقدات الشعوب ورموزها الدينية،أي حرية تلك التي يتحدثون عنها، وهم يدركون أن هذه الرسوم ليست سوى أداة لاستفزاز مشاعر أكثر من مليار مسلم حول العالم؟.

الحرية الحقيقية تقوم على احترام الآخر مهما اختلفت عقيدته أو جنسيته، لا على إهانة مقدساته تحت ذرائع زائفة، وإذا كانت الإساءة للأديان تُدرج ضمن هذا العبث في نظرهم، فبأي منطق يمكن التفرقة إذن بين هذه الممارسات والعنصرية الصريحة؟

 

وكيف يمكن إنكار النزعة العنصرية في المجتمع الفرنسي، وقد تبدلت خريطته الديموغرافية بشكل ملحوظ خلال العقدين الأخيرين؟ فقد شهدت فرنسا تحولًا اجتماعيًا واضحًا تمثل في الانسحاب الطوعي للفرنسيين من أصول أوروبية من الأحياء ذات الأغلبية العربية والأفريقية، إلى مناطق يغلب عليها الطابع الأوروبي الأبيض.

في المقابل، واجهت العائلات ذات الأصول المهاجرة ضغوطًا للإخلاء أو الانسحاب القسري من تلك الأحياء،وتفاقمت حدة الانقسام الطبقي والعرقي بعد أحداث عام 2015، حين أقرّ الدستور الفرنسي تعديلات سمحت بتقييد حركة الهجرة الداخلية، بحيث يُجبر أي ساكن على الانتقال من منزله إذا تقدم أحد جيرانه بشكوى بدعوى “الاختلاف العرقي”، دون الحاجة إلى مبرر قانوني.

وهكذا باتت فرنسا اليوم تعيش واقعًا ديموغرافيًا جديدًا، بخريطة سكانية مقسّمة بوضوح على أسس عرقية وثقافية، يتقاسم فيها السكان نهارًا مساحات العيش والعمل بحرية محدودة، بينما تنغلق الأحياء على نفسها مع حلول الليل، لتكشف عن فجوة اجتماعية متزايدة تعمّق من التباعد بين مكونات المجتمع، وتطرح تساؤلات حول مصير قيم المساواة والتعايش التي طالما تغنّت بها الجمهورية.

تنبع فوبيا الفرنسيين من الإسلام والمسلمين من خشيتهم من تغيّر التركيبة العلمانية لمجتمعهم، وهو ما يفسر التصريحات المستفزة التي يطلقها الرئيس الفرنسي إيمانويل” ماكرون” بين الحين والآخر، حين زعم أن “ديانة الإسلام تعيش أزمة في كل مكان في العالم”.

ورغم حرص” ماكرون” الدائم في خطاباته على الربط بين الإسلام والإرهاب، إلا أن الواقع يُظهر أن الأزمة الحقيقية تكمن في فشل السياسات الداخلية والخارجية لفرنسا، وليس في دين يعتنقه أكثر من مليار ونصف إنسان حول العالم.

فدول مثل إندونيسيا، أكبر دولة إسلامية من حيث عدد السكان، تعيش استقرارًا وتنوعًا عرقيًا ودينيًا دون أزمات، كما تمثل إنجلترا نموذجًا ناجحًا في التعدد الثقافي الذي يثري المجتمع بدلًا من أن يهدده، وهو ما يفضح تناقض الخطاب الفرنسي مع مبادئ التعايش التي يدّعي الدفاع عنها.

إن الأزمة الراهنة بين الغرب والإسلام ليست في جوهرها دينية، بل هي انعكاس لصراع سياسي وثقافي تحكمه المصالح وتغذّيه نزعات الهيمنة والتفوق الحضاري. فالتاريخ الحديث يشهد بأن المآسي الكبرى التي عصفت بالعالم في القرن العشرين — من هتلر وستالين إلى مجازر رواندا — لم تكن وليدة أديان، بل نتاج أنظمة علمانية وملحدة مارست أبشع صور القمع والدمار باسم الفكر والسياسة، دون وازع من ضمير أو اعتبار لعواقبها الإنسانية.

فليتّعظ الغرب قبل أن يُلقي بتهم التطرف على الإسلام، ولْيُدرِك أن الدين الذي يدعو إلى السلام والرحمة والعدل ليس سبب الأزمات، بل ضحيتها،اللهم أعز الإسلام والمسلمين.

سماح سعيد

سماح سعيد كاتبة صحفية مصرية،عضو نقابة الصحفيين
زر الذهاب إلى الأعلى