العربية سمات وتحديات
بقلم أ د البسيوني عويضة
أستاذ اللغويات بكلية اللغة العربية بجامعة أسيوط
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين النبي العربي الأمين وعلى صحبه والتابعين، وبعد:فإن اللغة العربية تعد الوعاء الثقاقي الذي استوعب ثقافة الأمة وحضارتها وتاريخها المتمثل في التراث اللغوي الإسلامي والعربي٠
فهي اللغة المختارة التي أنزل الله بها أحسن الحديث على سيد الخلق في أشرف البقاع في أفضل الأزمان شهر رمضان سيد الشهور، فكمل لها الفضل من كل وجه، وعظمت بها المنة والشرف، وصدق الله تعالى إذ قال:” وإنه لذكر لك ولقومك”( الزخرف44)٠
لقد ابتعث الله رسوله الخاتم محمدا-صلى الله عليه وسلم- بلسان قومه خاصة برسالة عالمية، وأوجب على الناس كافة أن يتعلموا اللسان العربي بصفته لسان المرسل إليهم ؛ ليتفقهوا رسالته، ويقيموا شعائر الإسلام التي كلفوا بها، فكل لسان تبع للسان النبي- صلى الله عليه وسلم-، وكل أمة تبع لأمة محمد، لقد جاءت لغة الوحيين الشريفين على نمط لغة العرب، وضروب تصرفاتها وأساليبها- وإن باينتها في الفصاحة والإعجاز-، ففي القرآن الحقيقة والمجاز، والإطناب والإيجاز، والعام والخاص، والإظهار والإخفاء، والحذف والذكر، والتلميح والتصريح، والتقديم والتأخير، وبراعة الاستهلال، وحسن الختام، وبالجملة في القرآن جميع فنون الكلام الفصيح، وطرائق استعماله٠
لقد كان القرآن مركزا للدراسات اللغوية العربية المختلفة، فمن أجل الحفاظ عليه، وصونه من اللحن نشأ علم النحو العربي، ولمعرفة إعجازه اللغوي والبياني نشأ علم البلاغة العربية، ولمعرفة أحكام القرآن نشأ علم الفقه وأصوله، ولفهم دلالات القرآن نشأ علم التفسير والتأويل، وما يتعلق به من الناسخ والمنسوخ، وعلم تلاوة القرآن، وأسباب النزول وغير ذلك، فكل هذه العلوم نشأت في رحاب القرآن وفي خدمته إعرابا وبيانا وإعجازا وأحكاما،إن فضل القرآن الكريم على العربية لا ينكر، فهو السياج الذى حماها من طعان الأعداء، ولعان السفهاء، وأمدها بالخلود والبقاء٠
إن ارتباط العربية بالقرآن إنما هو ارتباط الروح بالجسد، والشكل بالمضون، والصورة بالمادة، فاللغة العربية محفوظة بحفظ الله كتابَه قال الله تعالى:” إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون”(الحج :9)، فحفظ الكتاب عن التغيير والتبديل والتحريف حفظ للغته كذلك، ومن آيات حفظ الله للعربية أن التطور- وهو سنة الكائنات ومنها اللغات، فهي تخضع لسنة التطور، فيصيبها ما يصيب الكائنات من النقص والقصور.
أن العربية خرقت ذلك الناموس، وبقيت محتفظة بمستوياتها اللغوية الأربعة( الصوتي والصرفي والنحوي والدلالي)، فنحن ننطق ألفاظ العربية كما نطقها العرب أصحاب هذه اللغة مذ عهودها القديمة، ولعل مرد ذلك إلى علم التلاوة القرآنية، فقد حفظ لألفاظ العربية خصائصها الصوتية في النطق، وحتى إن ما استجاب لسنة التطور في الجانب الدلالي لم ينفصل عن أصله بل بقيت وشيجة قوية من الدلالة تربطه بالأصل٠
هذا الاستقرار اللغوي في مستويات اللغة المختلفة جعل الصلة بينها والعربية وتراثها وثيقة، فأشعار العرب الضاربة في القدم ما نزال ترددها الألسن في ذلاقة وخفة دون ثقل أو تلعثم، وتحفظها الذاكرة العربية مع فقه دلالالتها ومراميها، وهذا دليل تفرد العربية، فشعر الملك الضليل” امرئ القيس” أحد شعراء العربية العظام المتوفي قبل الهجرة النبوية بمائة وثلاثين عاما تقريبا لا يزال ينشده الناس ويتغنون به، فبقيت العربية بأشعارها حية نابضة لا يؤثر فيها القدم، ولا يقدح فيها تعاقب الأجيال والأمم، بل صمدت كالطود الراسخ أمام الغزاة الطامعين، والمستعربين الحاقدين تحمل شخصية الأمة العربية وثقافتها، وتجسد وحدتها وحضارتها، فالعربية ليست لغة دين فحسب بل لغة حضارة إنسانية، وتاريخ وتراث وهوية٠
فالعربية تحمل في نفسها سر تفوقها، وسبب بقائها، فهي أكمل اللغات بيانا، وأثراها ألفاظا، وأقدرها على التعبير عن مقاصد المتكلمين،وثراء العربية يتمثل في 80،000 ثمانين ألف مادة لغوية، وإن كان المستعمل في النطق والكتابة لا يتجاوز ثمن العدد 10,000 مادة، والباقي تحتفظ به دواوين اللغة ومعجماتها، وكلمات العربية تربو على 12،000000 اثني عشر مليون كلمة، وهي بهذا الثراء اللغوي لا تدانيها لغة قال الشافعي رحمه الله- :” لسان العرب أوسع الألسنة مذهبا، وأكثرها ألفاظا، ولا نعلمه يحيط بجميع علمه غير نبي”( الرسالة 43/1)٠
لقد كانت العربية رافدا سخيا لكثير من اللغات الإنسانية، فقد اقتبست لغات كثيرة من العربية مفردات منها تربو على27 سبع وعشرين لغة كما أفادت من حروف العربية في الرسم والكتابة لغات أخرى ك(الفارسية والكردية ولغة الملايو ولغة البشتو) وغيرها٠
وقد كان الإسلام سندا قويا للعربية أمدها بدلالات شرعية جديدة، وحفظها من الاندثار حين بادت لغات، وتلاشت حضارات، فاللغة اللاتينية، وهي أخت العربية قد انزوت بين جدران المعابد٠
إن مرونة العربية وقبولها للتطور والنماء لم يدع فجوة بين ماضيها وحاضرها، ولم يزدها البعد التاريخي إلا جِدة وصمودا، فقد صارت وعاء لحضارة الجنس البشري كله حاملة تاريخه وثقافته٠
ومن مظاهر الجمال في العربية الذي لا يمكن أن تجده في لغة أخرى ؛
– أنك تجد في العربية مفردات تُقرأ من اليمين أو من اليسار دون أن يتغير المعنى مثل: واو وليل وتوت وباب٠
– وكلمات اختُزلت في الاستعمال فبقيت على حرف واحد، والمعنى فيها لم ينقص كما لو لم يحذف منها شيء نحو: لِ وقِ وعِ وفِ ونحو ذلك فهي أفعال أمر من ولي ووقى ووعى ووفى٠
– وكلمات مقيدة الدلالة كالكأس لا تسمى بهذا الاسم إلا إذا كان فيها مشروب وإلا فاسمها قدح،والمائدة لا تسمى بذلك حتى يكون فيها طعام وإلا فهي خوان، والحديقة لا تسمى بذلك حتى يكون لها سور وإلا فهي بستان٠
– وكلمات محددة الدلالة العددية مثل:
البضع دلالته من3 – 9
والفرقة تدل على 3 أشخاص٠
والطائفة أقلها 4 أشخاص٠
والرهط من 5 – 10
والعصابة من 10- 40
والعصبة من 10- 90
والسيارة الجماعة المارة قليلة كانت أو كثيرة٠
– كلمات تتسم بالتنوع في الدلالة، فالإنسان إذا تهيأ للبكاء قيل: أجهش، وإذا امتلأت عيناه بالدموع قيل: اغرورقت عيناه، وإذا سالت الدموع قيل: دمعت عيناه، فإذا كثر الدمع قيل: هملت عيناه، وإذا بكى بصوت قيل: نحب، وإذا علا صوته في البكاء قيل: أعول٠( الكليات للكفوي 247)
هذا ولسعة قاموس العربية يقول ابن خالويه: جمعت للأسد 500 خمسمائة اسم، وللحية نحو 200 مائتي اسم٠
وعن الأصمعي أن للحجر عند العرب 70 سبعين اسما٠
وعن حمزة الأصفهاني: أن أسماء الدواهي عند العرب 400 أربعمائة اسما٠
وذكر صاحب القاموس في مادة ” س ي ف” أن أسماء الأسد في العربية نحو 1000 ألف اسم، وأن معاني كلمة “عين” تنيف على 100 مائة اسم، ومعاني كلمة ” عجوز” تنيف على 80 ثمانين اسما، ومعاني الكَرَم تنيف على 30 ثلاثين اسما٠
وذكر أبو العلاء المعري للكلب 70 سبعين اسما
ونظم السيوطي في أسماء الكلب أرجوزة أشماها (التبري من معرة المعري) ذكر فيها 60 اسما للكلب قال في نهايتها:
هذا الذي من كتب جمعته* وما بدا من بعد ذا ألحقته
ومن مظاهر التلازم بين العربية والقرآن انتشار العربية حيث سارت في ركاب الإسلام حيث سار، وانتشرت بانتشاره، فأكسبها صفة العالمية، فهي لغة شعائرية ليست خاصة بالشعائر الإسلامية، بل إن طقوسا وقداسات دينية تقام بالعربية في كثير من الكنائس النصرانية في الوطن العربي٠
اللغة العربية لغة رسمية لنحو نصف مليار مواطن عربي، ويتحدث بها مثلهم أو يزيدون من المسلمين، وهي واحدة من اللغات السبع الأكثر استخداما في الشبكة العنكبوتية تفوق اللغتين الفارسية والفرنسية، وهي كذلك إحدى اللغات الست المعتمدة في هيئة الأمم المتحدة٠
ومن مظاهر ارتباط العربية بالقرآن أنها كانت عاملا قويا في وحدة الأمة وترابطها وتماسكها فكما ألَّف القرآن بين قلوب أتباعه، وجمعهم على الهدى فقد وحدت العربية بينهم، وغدت اللسان المشترك، وإن اختلفت اللهجات، وتباينت اللكنات، لأن القرآن لسان الإسلام الناطق، ومعجزته الخالدة الذي أخرج العربية من عزلتها العربية وبيئتها البدويةإلى أرجاء الدنيا الفسيحة، فتبوأت مكانها ومكانتها لما لها من خصائص وصفات لم تتوفر في لغة أخرى٠
كذلك أن القرآن هذب ألفاظها، وسما بأساليبها، فهجر المستهجن من ألفاظها، والركيك من تراكيبها حتى شهد للقرآن أشد أعدائه من العرب وجرى على لسانه في نعته القرآن قال:” إن له لحلاوة وأن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وأنه يعلو ولا يعلى عليه٠ ( غريب الحديث لابن سلام 153/3)
لقد أثر القرآن بعذوبة ألفاظه، وجمال معانيه، وسلاسة تراكيبه في العرب حتى انقادت له طباع الشعراء منهم، وانصاعت له ألسنتهم، فلانت ألفاظهم، ورقت أساليبهم، فها هو ذا الحطيئة- على ما فيه من بدواة وجفاء وجلافة طبع، وغرابة لفظ- يقول:
ولست أرى السعادة جمع مال
ولكن التقي هو السعيد
وتقوى الله خير الزاد ذخرا
وعند الله للأتقى مزيد
وما لا بد أن يأتي قريب
ولكن الذي يمضي بعيد
وهو القائل:
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه
لا يذهب العرف بين الله وبين الناس
لقد سرت روح القرآن وعذوبة ألفاظه، وتعاليمه في قلوب الشعراء ووجدانهم فنفثوها شعرا من قبسات القرآن فصاحة لفظ، وعذوبة بيان ، ناهيك من خصيصة عظيمة تفردت بها العربية دون سائر اللغات، وهو الإعراب الكاشف عن المعاني المتباينة، ومزيل اللبس بين الكلمات٠
إن لغتنا اليوم تواجه مشكلات حقيقية تتهددها في وجودها في عصر يتسم بالعولمة والانفتاح الثقافي الخابط الذي يفتقد الضوابط الأخلاقية والإنسانية، فضلا عن وازدواجية اللغة، وسيطرت اللغات الأجنبية، وفشو العامية، وشيوع الأخطاء اللغوية، والحط المتعمد من العربية، والتندر بمتحدثيها، وعقوق بنيها، وإيثار غيرها عليها في النطق والكتابة٠
إن كل مظهر من هذه المظاهر يمثل مشكلة للعربية، ويعوق مسيرتها، ويجد من انتشارها، فاللغات تنتشر وتقوى بالاستعمال والممارسة، إن الأمر يستدعي بث الوعي بأهمية العربية بصفتها لغة الدين، ولغة الثقافة، وأن قضيتها قضية هوية ووجود٠
والتأكيد على أن الحفاظ على العربية واجب ديني وقومي، وإن التفريط فيها طمس لمعالم التاريخ والثقافة، ومحو للشخصية والهوية، وتضييع لذاكرة الأمة، وخطر على وحدتها وتماسكها واستقلالها، وقطع لحاضر الأمة عن ماضيها، وانجرار وراء التغريب والتبعية، وانسلاخ من الهوية، وما يربط الأمة بماضيها التليد، وتاريخها المجيد حتى تضرب في التيه فتغدو تابعة لا متبوعة، ومنقادة لا قائدة٠
إن اعتزازنا بلغتنا ليس دعوى تلوكها الألسن، أو احتفال يقام ثم ينفض، وإنما ينبغي أن يترجم حبنا لها واعتزازنا بها إلى أفعال حقيقية واقعية تعمل على حفظ اللغة، إنك لتعجب حين تقرأ بعض الإحصاءات التي تشير إلى مدى عناية الأمم بلغاتها، والتمسك بها، وبذل الجهد والمال في الحفاظ عليها حتى تتصدر العناية باللغة قوائم الأولويات للدول صغيرة أكانت أم كبيرة٠
– فإيرلندا- تلك الدولة الفقيرة- أنشأت وكالة للغتها القومية، وأنفقت عليها أموالا كثيرة في سبيل الحفاظ عليها٠
– وألمانيا أنفقت نحو500 مليون مارك ألماني لخدمة لغتها والحفاظ عليها٠
– وفرنسا أنفقت عام1977م نحو 30بليون فرنك فرنسي للحفاظ على لغتها٠
– وبريطانيا تخصص نحو 200 مليون جنيه استريني سنويا في خدمة لغتها والحفاظ عليها٠
– وأسبانيا خصصت عام 1991 م 75 ألف دولارا في سبيل الحفاظ على لغتها٠
– وأمريكا تستخدم خمس هيئات دولية للترويج للغة الإنجليزية( اللغة والاقتصاد لفلوريان ص144-148)
إن مستقبل العربية مرهون بالإبداع العلمي والفكري والثقافي مع الأخذ بأسباب القوة المادية والسياسية، وبعث روح الانتماء الحقيقي للعربية، ومقاومة التغريب والتبعية الثقافية، وتغيير الصورة النمطية التي تهوّن من أمر العربية، وتحط من قدر متحدثيها، والتمسك بثوابتنا التاريخية لعلنا نحد من تأثيرات العولمة وأخطارها على لغتنا٠
إن الشعور بالمسؤولية تجاه عربيتنا واجب على كل من ينتمي إلى العروبة والإسلام، فالعربية لن تحيا بالعواطف الجياشة، ولا بالكلمات الجوفاء ولا الادعاءات التي لا تحمل مضمونا، ولا تصدقها إرادة٠
إن الاعتزاز الصادق، والانتماء للعربية المخلص يدعو إلى إيثارها على غيرها، وإبراز سماتها وخصائصها، وتذليلها للمستخدمين، والقضاء على العقبات التي تعوق التحدث بها لتكون ميسورة سهلة للمنتمين إليها، واللغة تحيا وتنتشر بالممارسة الصحيحة والاستعمال اللغوي الذي يراعي أنظمتها وقوانينها المختلفة في التحدث والكتابة٠