حرائق الذاكرة المتعبة
قصة قصيرة
بقلم الكاتب الجزائرى شدرى معمر مرحبا
كان منزويا في ركن، مسندا ظهره إلى جدار مسجد الزاوية،القابعة في قمة الجبل ، تحيطها أشجار التين والزيتون، أصوات الطلبة تلهج بالأذكار، جو روحاني يملأ المكان، كان غارقا في تأملاته، يفتح قلبه لسكون الطبيعة، قلبه المثقل بأتعاب السنين، لم يمض على مجيئه إلى زاوية سي بلحمد الزواوي وقتا طويلا ،لم يعرف أحد عنه شيئا، أوشام على ساعديه، وجه يميل إلى السمرة بنظرات حادة، حزن يرتسم على ملامحه ، جسم قوي..
عندما تنتهي حلقة الذكر، يغادر المسجد يجلس على حجر أملس تقابله جبال جرجرة الشامخة تداعم نسمات الربيع خصلات شعره التي بدا عليها قليل من البياض و كأنها لوحة رسام سادها السواد وخيوط بيضاء تزينها ، فتح عينيه السوداوين على أشجار الغابة الخضراء ، أصوات العصافير تؤلف سمفونية عذبة، تناغم عجيب في الطبيعة، يخرج من سترة قميصه الأبيض الناصع البياض صورة احتفظ بها منذ سنوات السجن الطوال، سلخ عشرين خريفا من عمره وسط زنزانة ضيقة وجدران خرساء، قرب الصورة من عينيه ، ثم شفتيه طبع عليها قبلة، انفجرت الدموع في مقلتيه ، أنا السبب ، أنا السبب ،ارجع الصورة إلى الجيب امسك رأسه بيديه المفتولتين و غرق في بكاء طويل ، أطفأ لهيب القلب بدموع غزار .
هو الآن يتذكر تنفتح ذاكرته الموجعة على حرائق غابة العمر، على تلك اللحظة التي قلبت حياته رأسا على عقب ، في زيارتهم له في السجن ، انتهت حياة زوجته و أبنائه الثلاثة في حادث مرور مروع، هو كان على يقين أنها تصفية حساب بعض أفراد عصابته الذين شقوا عنه عصا الطاعة.
بعد هذا الحادث تغيرت مفاهيمه للحياة، أقبل في السجن على إكمال الدراسة و القراءة ووجد في عالم الكتب الساحر بعض العزاء، انتظم في الصلاة، و شعر بأنه ولد من جديد ولادة حقيقية روحية.
وهو يسبح في محيطات الذكريات نبهه صوت طالب بالزاوية وقف بجانبه مبتسما : ألا تتناول الغداء..نظر إليه ، ابتسم ابتسامة تحمل الانكسار: لست جائعا، بارك الله فيك…نهض من مكانه تمشى بين الأشجار، كانت أذناه تلتقط حفيف الأوراق وعيناه تتأملان هذا الجمال البديع، تناسق يبعث الانشراح في القلب، توقف تجاه شجرة البلوط، لفت انتباهه صوت عصفور شجي: قال في نفسه : إنه يسألني عن حالي ….. يخبرني بأن اسرتي بخير هناك، عند رحمان رحيم …استمر في المشي واختفى وسط الغابة .