مقالات

ربع قرن على وحدة «حوض النيل».. وما زلنا على العهد باقين!

بقلم – إبراهيم فايد

بادئ ذي بدء، أفخر وأشرُف بانتمائي القمحي الأسمر التليد الأنيق لهذه القارّة الطيب أهلها سمراء البنية بيضاء القلب واللب، والتي لم تتأخر على مر التاريخ عن دعم كافة أجناس وأعراق العالم -من أدنى الأرض إلى أقصاها ومن شمالها وشرقها حتى غربها وجنوبها- بالخامات والموارد الطبيعية والمعدنية والزروع والثمار وكافة وسائل الطاقة والتصنيع، لِمَ لا وقد حباها الله الخير كل الخير من شتَّى ما تشتهيه الأنفس وتلَذُّ الأَعْيُن وتقوم عليه حضارات رائدة شاهدناها وعايشناها بالفعل وما زالت آثارها في آفاق الكوكب هنا وهناك راسخة باقية ممتدة من الحبشة في الجنوب إلى الفراعنة في الشمال وقرطاج الفينيقة بشمال غرب القارة والكوش في السودان القديمة وحضارات النوك وبونت وممالك وإمبراطوريات سونغاي ومالي وأكسوم…، ولم تقف خيراتها عند مجرد كونها ذخرًا للثروات الطبيعية بل وأيضًا قدمت العقول المفكرة والخبرات المتعاظمة التي منحت الغرب مئات إن لم تكن آلاف الإبداعات والاختراعات التي عادت بالنفع على البشرية جمعاء.

هكذا كانت أفريقيا دائمًا وهكذا ستستمر أبدًا عظيمة أبيّة واضحة المبادئ جَلِيَّة الغايات مُوَحَّدَة البداية والمصير، لتأتي «مبادرة حوض النيل» تتلمس طرف الخيط وتكمل المَسير وتَحِيك ببراعة أروع لوحات الوحدة والسلام والتآخي بين بلدان شمال ووسط القارة على اختلاف لغاتها ولهجاتها ومناخها ومواردها وطقوسها وألوانها وثقافاتها ومرجعياتها وسياساتها واقتصادياتها، لتجمع الكل في فيض عطاءٍ واحدٍ ينهل من خيرات النيل العظيم الأَطْوَل والأعرق والأطْيَب على ظهر كوكبنا الأزرق، وهو النيل الذي أخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه واحد من نهرين اثنين في الجنة ثانيهما «الفرات».

لقد كانت أفريقيا وما تزال مَطمعًا للجميع بمواردها التي تجري بأمر الله لا تنضب ولا تكُفّ عن المَفيض اللهم إلا بمحاولات بشرية عبثية أحيانًا بالتعديل على مجاريها وأحيان أخرى بالتعدي على حرماتها وتجاوُز حقوق وواجبات البعض تجاه البقية، لكن الأغلب الأعَمّ من حكومات وشعوب حوض النيل يحملون في قلوبهم كل الخير والود والأمان وخالص الأماني بالنهوض والاستقرار لأشقائهم، وقد يتمثل ذلك على أرض الواقع باتفاقيات التبادل الصناعي والاستثماري والتجاري، فضلًا عن تسهيل التعاون الفكري والعقائدي المتمثل في إرسال واستقبال البعثات التعليمية والدينية بين بلدان حوض النيل، جنبًا إلى جنب مع دعم بنود الرفاهية التي تجمعنا أيضًا رياضيًا؛ إذ ينتظر الجميع بفارغ الصبر ما بين العام والآخر حتى تجمع أحدهم مشاركة إخوانهم في بطولات وفعاليات دولية -لا سيّما تلك الكروية- ليستمر شريان المحبة الفائض بيننا وازعًا على القرب والتآخي والتقارب وخير رابط لنا يُوَحِّدُنا أمام أطماع أولئك أو هؤلاء!

لم أشأ في مقالتي المتواضعة تلك أن أحصر فقراتها في سياق واحد أو أن يحتكرها وجه بعينه من مجالات الشراكة والتعاون بين دول حوض النيل؛ فشراكة الأرض والماء والغذاء والتاريخ والحياة والمصير الوحيد أكبر من أن نهمشها وننحيها جانبًا ونحصرها في أمر دون غيره، بل وددت لو مررت بأبجديتي المتواضعة هنا مرورًا عامًّا وبلمسة عابرة أسلط خلالها عظيم امتناني على هذه الأخُوّة الجغرافية التي زجّت بنا جميعًا إلى دروب التراحم وسراديب التعاون في قضايا جادّة ومصيرية على رأسها أزمات البيئة والمناخ وكذا مشاريع تنمية القارة الأفريقية عبر ربط خطوط السكك الحديدية وتفعيل دور التجارة البرية والنهرية بين الأشقاء، فضلًا عن دور جيوش حوض النيل ودورهم في تعزيز الأمن والسلام والوحدة ضد كل معتدي على حق أي من أعضاء المبادرة في المياه والسِّلْم والأمان الداخليين؛ ما يلقي بظلاله في صالِح تحقيق نهضة وتنمية وطفرة قوية ملموسة تعيشها الشعوب في شتّى مناحي السياسة والاقتصاد.

مُذ قديم الأزل الضارب في أعماق الحضارات العريقة، كان التواصل بين شعوب حوض النيل سمة رئيسية يسودها الود والحب وتبادُل الموارد ودعم متطلبات كل دولة مما تفيض به الأخرى ماديًا ومعنويًا، فهذه تمُدُّ تلك بالغذاء لترد لها الأخرى الجَميل بالدواء لتعطيهم الثالثة مدرسين وأطباء ومهندسين يُعَلِّمون ويعالجون ويبنون ويعمرون، وهو ما وطَّدَته «مبادرة حوض النيل» ببنودها الثلاثة عشر التي ضمنت دوام التعاون والاستثمار ومراعاة شكاوى ومتطلبات ومخاوف الجيران هنا وهناك، جيران الماء والغذاء والمناخ والبشرة والطموحات والمعانيات…، وها نحن اليوم رغم مرور قرابة الربع قرن على توقيع تلك الاتفاقية ما زلنا نُسَبِّحُ بحمدها وهي التي جنَّبت شعوبنا الكثير من اللغط والصراعات المحتملة وغير المحتملة، إذ لم يبق في وجهة نظري المتواضعة سوى اليقظة وعدم الانصياع خلف أعداء القارة الذين ينفثون بين الحين والآخر سمومهم للوقيعة بين الأشقاء شمالًا وجنوبًا.

أخيرًا، أختتم بخالص تقديري واعتزازي كوني وُلِدتُّ على أرض هذه الأراضي الطيبة المظلومة المهضومة الحقوق على مر التاريخ، فلم تكن قارتنا يومًا غازية ولا معتدية ولا ناهبة لثروات العالمين، لكن وفي الوقت ذاته ورغم كل ذا ما زالت تفيض بعطاء الحب وحب العطاء وتثري مشارق الأرض ومغاربها بما يُحيي مَوات الشعوب، وإن كنا نحن أصحاب كل تلكم الثروات لا نملك منها طائلًا كبيرًا لضعف الخبرات وعدم الاستعانة بقامات تكنوقراطية وطنية حقيقية تُيَسِّرُ أمرنا وتوحد صفوفنا وتُضافِر أيادينا وغاياتنا تحت راية استراتيچية أمدية تضمن مستقبلًا راحة وثراء وعلو أبناءنا وأحفادنا، لكن ومع الالتزام بمثل هذه المبادرات أرى الحاضر الباهت يتفتح ويشرق مضيئًا بنور العلم وشموخ الفكر وثراء الطبيعة وعزة القارّة وإباء أهلها.

#إبراهيم_فايد

زر الذهاب إلى الأعلى